من بين ركام القطار المحطم جاء صوته مستغيثا بغضب "إلحقونا" تسلل صدى صوته لينكأ شعورا بالمرارة مختلطا بالحزن، لم نفق من صدمة جنوح السفينة بقناة السويس، لم تسترح عقولنا اللاهثة وراء البحث عن الأسباب التى أدت لهذا الحادث، ولم نستوعب التبريرات التى انطلقت من ألسنة من عهدنا دوما منهم التبرير والتهوين ومساندة الساسة فى تنصلهم من المسئولية.. لم نعرف كيف تمكننا من صرف المليارات على توسعة القناة، بينما تقاعسنا عن توفير معدات وكراكات ضخمة وحديثة لمواجهة أى حادثة جنوح كبيرة مثلما تعرضت له القناة قبل أيام! لماذا لم ننتبه لتلك البديهية وتلك الحاجة الملحة وانتظرنا كعادتنا وقوع الكارثة حتى نسرع في الوعود بتوفيرها والتعهد بالإستعداد لمواجهة أى كارثة مشابهة!
تمتد أيادينا بخوف كأنها تخشى على قلوبنا من الوقوع كمدا على مايحدث.. نرفعها بصمت عاجز للسماء علها تنجينا من عثرتنا وتكشف الغمة التى من المؤكد أنها لن تنزاح قبل أن ندفع ثمنها خسارة وتعويضا وأسفا لكل سفينة تأخرت، وكل قافلة تعثرت، وكل حمولة تأخرت، وكل شحنة تباطأت عن ميعاد وصولها.
على شماعة الرياح وسوء الأحوال الجوية علقنا حادثة جنوح السفينة، محاولين التغطية على فشلنا فى تعويمها خلال زمن قياسى إذا ما توافرت لدينا المعدات اللازمة لمواجهة ذلك الجنوح.
سفينة أتلف قيادتها الهوى فماذا أتلف قطارى سوهاج.. بفعل متعمد أو بفعل إهمال أو بفعل الفشل؟
تتوالى المبررات والنتيجة الحزينة واحدة، دماء وأشلاء ضحايا، جثث ممزقة محشورة، وأصوات استغاثات مكلومة، وأجساد واهنة مصابة، مايزيد عن المئتين مابين قتيل وجريح.. تهرع إليهم مئات الأجساد الأخرى، كل يبحث عن قريب / أخ / أب / أم / أخت / عم / خال / صاحب / جار.. الكآبة المحفورة على الوجوه لاتشى فقط بحجم الحزن والوجع النابض من قلب الحدث الجسيم، لكنها أيضا تعكس بؤس حال أصحابها، البسطاء فى الصعيد المنسي الذين لايختلف حالهم كثيرا عن كل المنسيين والمهمشين فى بلادنا المحروسة، بأيادى لم ننل منها إلا طعم الفشل والغفلة والإهمال.
فشل يقف دون تعاطفنا مع "لمة" الحكومة وتحركها وبيانها المواسى لأهالى الضحايا، والمتعهد بالتعويض المادي، والمساند للمصابين، والإسراع بتشكيل لجنة لمعرفة أسباب وملابسات الكارثة.
لم تقنعنا كلمات رئيس الوزراء التى اعترف فيها بأن منظومة السكك الحديدية تعانى عقودا من الإهمال.. لم يأت بجديد لكنه استفز تساؤلا مكتوما عما جناه الشعب من تصريحات معسولة، تبشرنا كل يوم بخطة تطوير طموحة وعملية إصلاح فورية وجهد دءوب لإصلاح السكك الحديدية!
ابتلعنا مرارة واقع نعيشه لايحمل لنا بشارة تدفعنا للتفاؤل مع تلك التصريحات الوردية، طردنا ظنون السوء، وحاولنا الإمتثال لدعوات دءوبة من أبواق النظام تهلل لبشائر الإصلاح، وتتهم المتشككين بالخيانة والعمالة.. تغاضينا عن حالنا الذى يسير للأسوأ بفعل سياسات تستهدف قوت يوم الناس ولاتترك لهم سوى الفتات.
امتثلنا للصمت حتى توالت كوارث تدفع للحزن أكثر مما تدفع للغضب.. كثرت الأحزان ولم تعد الأيادى المفتعلة المواساة والتعزية قادرة على تسكين الجرح الغائر.
"الحقونا" صرخة مدوية لم تنطلق من قلب ضحية القطار المحطم ولكن من قلوب ملايين المصريين.
"الحقونا" صرخة حزينة لاتستهدف سمع كل مسؤول عن إهمال أو غفلة أو فشل أو فساد، ولكنها صرخة فى وجوه كل هؤلاء، ولسان حال الشعب المكلوم "ليس من تسبب فى المأساة بقادر على أن ينهيها.. فإغربوا عن وجوهنا".
-------------------
بقلم: هالة فؤاد